مكانة بيت المقدس في الإسلام وعند المسلمين
لكي نعرف مكانة بيت المقدس في الإسلام فإننا نجد أنفسنا ملزمين بالرجوع إلى المصادر الإسلامية الأساسية: (القرآن والسنة) مكتفين بتقديم بعض النصوص الواردة في الموضوع .
يقول القرآن الكريم
{سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله} (الإسراء :1) وقد أسري بالرسول صلى الله عليه وسلم وعرج به إلى السماء قبل الهجرة النبوية بعام وبضعة أشهر عام 621 م ويقول الرسول عليه الصلاة والسلام ((لا تشد الرحال إلا لثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى))، ويقول أيضاً ((فضلت الصلاة في المسجد الحرام على غيره بمائة ألف صلاة، وفي مسجدي بألف صلاة، وفي مسجد بيت المقدس بخمسمائة صلاة)) .
ويقول أبو ذر الغفاري: قلت لرسول الله: يا رسول الله أي مسجد وضع في الأرض أولاً؟ قال: المسجد الحرام، قلت، ثم أي؟ قال: المسجد الأقصى، قلت، كم بينهما؟ قال: أربعون سنة)) .
ويقول أبو أمامة الباهلي: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ((لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لعدوهم قاهرين، لا يضرهم من خالفهم، حتى يأتيهم أمر الله – عز وجل – وهم كذلك، قالوا: يا رسول الله وأين هم؟ قال : ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس)) .
إن المسجد الأقصى كما نرى من النصوص الإسلامية:
مسرى الرسول صلى الله عليه وسلم ومنطقة عروجه .
وهو أولى القبلتين .
وثاني مسجدين وضعا في الأرض .
وهو منزل مبارك تضاعف فيه الحسنات وتغفر فيه الذنوب .
ولهذه القداسة، وبناء على هذه المكانة، نظر المسلمون إلى بيت المقدس على أنه مزار شريف، ومنزل مبارك، وموضع مقدس كريم، فشدوا إليه الرحال، وأحرموا منه للحج والعمرة، وزاروه لذاته بغية الصلاة والثواب، وأحاطوه برعايتهم الدينية الكريمة .
وقد أحرم الخليفة عمر بن الخطاب نفسه للحج والعمرة من المسجد الأقصى، كما أحرم منه سعيد بن العاص – أحد المبشرين بالجنة، وقدم سعد بن أبي وقاص – قائد جيش القادسية- إلى المسجد الأقصى فأحرم منه بعمرة، وكذلك فعل الصحابة: عبدالله بن عمر، وعبدالله بن عباس، ومحمود بن الربيع الأنصاري الخزرجي .
أما الصحابة والفقهاء وأعلام الفكر الإسلامي الذين زاروا بيت المقدس، وبعضهم أقام فيه، فهم أكثر من أن يحصلوا، وحسبنا أن نذكر بعضهم لندل على المكانة الدينية التي احتلها بيت المقدس في فكر المسلمين وحضارتهم.
فمن هؤلاء (1) أبو عبيدة بن الجراح، وصفية بنت حيي زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعاذ بن جبل، وبلال بن رباح – مؤذن الرسول – الذي رفض الآذان بعد وفاة الرسول فلم يؤذن إلا بعد فتح بيت المقدس، وعياض بن غنيم، وعبدالله بن عمر، وخالد بن الوليد، وأبو ذر الغفاري، وأبو الدرداء عويمر، وعبادة بن الصامت، وسلمان الفارسي، وأبو مسعود الأنصاري، وتميم الداري، وعمرو بن العاص، وعبدالله بن سلام، وسعيد بن زيد، ومرة بن كعب، وشداد بن أوس، وأبو هريرة، وعبدالله بن عمرو بن العاص، ومعاوية بن أبي سفيان، وعوف بن مالك، وأبو جمعة الأنصاري، وكل هؤلاء من طبقة صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم .
ومن التابعين والفقهاء الأعلام: مالك بن دينار، وأويس القرني، وكعب الأحبار، ورابعة العدوية، والإمام الأوزاعي، وسفيان الثوري، وإبراهيم بن أدهم، ومقاتل بن سفيان، والليث بن سعد، ووكيع بن الجراح، والإمام الشافعي، وأبو جعفر الجرشي، وبشر الحافي، وثوبان بن يمرد (2)، وذو النون المصري، وسليم بن عامر (3)، والسرى السقطي، وبكر بن سهل الدمياطي، وأبو العوام مؤذن بيت المقدس، وسلامة المقدس الضرير، وأبو الفرج عبد الواحد الحنبلي، والإمام الغزالي، والإمام أبو بكر الطرطوش، والإمام أبو بكر العربي، وأبو بكر الجرجارني (4)، وأبو الحسن الزهري .. ومئات غيرهم.
ومن الخلفاء الذين زاروا بيت المقدس: عمر بن الخطاب، ومعاوية بي أبي سفيان (5)، وعبدالملك بن مروان، وعمر بن عبدالعزيز، والوليد بن عبد الملك، وسليمان بن عبد الملك، الذي هم بالإقامة في بيت المقدس، واتخاذها عاصمة لدولته بدل دمشق، وأبو جعفر المنصور، والخليفة المهدي بن المنصور، وغيرهم من خلفاء الأيوبيين والمماليك والعثمانيين .
وقد درج بعض الخلفاء والملوك – بدءاً من العصر المملوكي – على كنس الصخرة وغسلها بماء الورد بأيديهم .
ومن هؤلاء: الظاهر بيبرس (6)، والملك العادل زين الدين كتبغا المنصوري، والملك الناصر محمد بن قلاوون، وأخوه السلطان حسن، والملك الظاهر برقوق، والملك الأشرف برسباي، والملك الأشرف إبنال، والملك الأشرف قايتباي، والسلطان سليمان القانوني، والسلطان محمود الثاني، والسلطان عبد المجيد، والسلطان عبدالعزيز، والسلطان عبد الحميد الثاني وغيرهم(7) .
حماية بيت المقدس حق للمسلمين لا اليهود
نحن المسلمين نؤمن عن يقين نابع من الإسلام أن بيت المقدس وما حوله إنما هو أرض مقدسة لا نستطيع أن نفرط فيها إلا إذا فرطنا في تعاليم ديننا .
وغني عن التأكيد أننا – وحدنا في الأرض بالأمس واليوم – الذين نؤمن بكل الأنبياء ونكرمهم وننزههم من كل نقص .. بدءاً من آدم وإبراهيم ونوح .. وحتى موسى وعيسى ومحمد عليه جميعاً السلام وليس في ديننا نص واحد، لا في القرآن الكريم ولا في السنة النبوية الشريفة ينسب إلى أي نبي فاحشة أو جريمة أو كذباً .
ولأن يقبل إيمان المسلم إلا إذا آمن بكل الأنبياء، وأنزلهم جميعاً منزلة كريمة {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله} (البقرة: 285) .
{قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون} (البقرة: 136) .
وفي القرآن الكريم عشرات الآيات التي تتناول كل نبي على حدة، تثبت له كل كريم من الخلق، وتنفي عنه كل ما حاول بعضهم إلصاقه به، وتحكي للمسلم قصة جهاده في أداء رسالته، وما لاقاه من الأذى المادي والمعنوي لتوحي إلى المسلم أن يحذو حذوه، لأن رسالة الأنبياء منذ نوح وحتى محمد رسالة واحدة تنبع من مصدر واحد، وتهدف إلى غايات واحدة، ويكمل بعضها بعضاً ( .
وبالتالي، وانطلاقاً من هذا الإيمان الكامل نقف نحن المسلمين حماة لكل التراث والمقدسات الدينية السماوية، وذلك بأمر ديننا الذي مثل آخر حلقة في سلسلة الوحي السماوي، والذي حمل أتباعه – نتيجة هذا – مسؤولية إنسانية عامة:
{كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون الله} (آل عمران : 110) .
{وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سمّاكم المسلمين من قبل} (الحج: 78) .
وإن حقيقة هذه المسؤولية العامة وقيمتها لتتضح إذا قارناها بالموقف اليهودي من الأنبياء، وهو ذلك الموقف الذي لا يؤهلهم لأي لون من ألوان الحماية أو الهيمنة على أية مقدسات دينية في الأرض .
إن التوراة نفسها – والإنجيل والقرآن أيضاً تصفهم في مواضع عديدة بأنهم "قتلة الأنبياء" ومشوهوهم و"أولاد الأفاعي"، و"الضآلون والعميان"، و "الملعونون بكفرهم" .
((قال الرب: ها أنذا جالب شراً على أورشليم، ويهوذا وأدفعهم إلى أيدي أعدائهم غنية ونهباً لجميع أعدائهم، لأنهم عملوا الشر في عيني)) (10) .
وتقول ((ها أنذا جالب الشر على هذا الموضع وسكانه من أجل أنهم تركوني، وأوقدوا لآلهة أخرى لكي يغيظوني بكل عمل أيديهم، فيشتعل غضبي على هذا الموضع ولا ينطفئ)) (11) .
وتقول ((إن الله قال: اذهب: قل لهذا الشعب، اسمعوا سمعاً، ولا تقهقوا، وأبصروا إبصاراً، ولا تعرفوا غلط قلب هذا الشعب، وثقل أذنيه، وأطمس عينيه، لئلا يبصر بعينيه ويسمع بأذنيه ويفهم بقلبه)) (12) .
وتقول ((وصار مرشدو هذا الشعب مضلين، لأجل ذلك لا يفرح الرب بفتيانه، ولا يرحم أيتامه وأرمله، لأن كل واحد منهم منافق وفاعل شر))(13) .
وتسجل كتبهم التاريخية أنهم قتلوا من الأنبياء "حزقيال"، و"أشعيا بن آموص"، و"آرميا"، و"زكريا" و"يحيى بن زكريا" (14)، كما أنهم حاولوا قتل "عيسى"، و"محمد" عليهما الصلاة والسلام، وتواطؤا ضدهما وضد أتباعهما
وفي "التوراة" أن إسرائيل "النبي يعقوب" أصرّ على محق العرب الكنعانيين وعدم الاعتراف لكنعان بحق الحياة ((حتى لو اعتنق العرب اليهودية))، لأنها دين إسرائيل وحده (15)، وهذا أمر محرف، لأن يعقوب نبي الله ولا يصدر عنه هذا التصرف الظالم .
وفيها أيضاً أن كل البشر غير اليهود "كلاب" وخدم لليهود ففي أصل الديانة، وهي تقول على لسان اليهود:
((لم نأخذ أرضاً لعرب، ولم نستول على شيء لأجنبي، ولكنه ميراث آبائنا الذي كان أعداؤنا قد استولوا عليه ظلماً)) (16) .
ويقول: ((استيلاء اليهود على ما يملكه الغوييم – أي غير اليهود – حق، وعمل تصحبه المسرة الدائمة)) .
ويقول: ((يستحق القتل كل الغوييم – أي غير اليهود- حتى ذوو الفضل
منهم)) .
فهل يمكن أن يؤتمن ناس هذه تعاليم كتبهم المقدسة على التراث الديني أو على الحضارة البشرية؟ ويقول القرآن الكريم {ذلك بأنهم كفروا بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق} (البقرة :61) .
فهل يصلح ناس هذا موقفهم لحماية تراث الأنبياء؟
وأين موقف الإسلام والمسلمين من موقف اليهودية واليهود؟
ومن يا ترى – أولى بحفظ هذا التراث وحمايته؟
والمسلمون منذ أربعة عشر قرناً ينظرون إلى بيت المقدس نظرة تقديس، على أنه مركز لتراث ديني كبير تجب حمايته، وهم يربطون ربطاً كاملاً وثيقاً بين المسجد الحرام في مكة، والمسجد الأقصى في القدس، وينظرون إلى القدس نظرة تقترب من نظرتهم إلى مكة.. فإليهم يشدون الرحال، وفي كليهما تراث ديني ممتد في التاريخ، فإذا كان أبو الأنبياء إبراهيم قد وضع قواعد الكعبة في مكة، فإن جسده الشريف يرقد على مقربة من القدس في الخليل – فيما يرى كثير من الرواة والمؤرخين – وإذا كان المسلمون في كل بقاع الأرض أصبحوا يتجهون في صلاتهم إلى المسجد الأقصى، فإنهم لا ينسون أن نبيهم محمداً وأسلافهم الصالحين قد اتجهوا – قبل نزول آيات حديث القبلة إلى الكعبة- إلى المسجد الأقصى أولى القبلتين .. ولا زالت مدينة الرسول عليه الصلاة والسلام تضم مسجداً يسمى "مسجد القبلتين" شاهداً حياً على الترابط الديني بين مكة والقدس، والمسجد الحرام والمسجد الأقصى .
وإذا ذكر المسلم بحسه الديني الممتد ووعيه التاريخي الإسلامي "بيت المقدس" فإنه يذكر أنه المكان الذي كلم الله فيه موسى، وتاب على داود وسليمان، وبشر زكريا بحيى، وسخر لداود الجبال والطير، وأوصى إبراهيم وإسحاق أن يدفنا فيه، وفيه ولد عيسى(17)، وتكلم في المهد، وأنزلت عليه المائدة، ورفع إلى السماء، وماتت مريم (18)، إن هذا هو موقف المسلم من الأنبياء وتراثهم، ومن بيت المقدس، وهو موقف يقوم على التقدير والتقديس والشعور بالمسؤولية الدينية والتاريخية .
وعلى العكس من هذا الإحلال الإسلامي لبيت المقدس، وللأنبياء والأخيار الذين اتصلوا به – كان موقف اليهود فكل هؤلاء الأبرار الذين ذكرناهم وغيرهم قد نالهم من اليهود كثير من الأذى، ولولا عناية الله بهم لما أدوا رسالتهم، ولولا تنزيه القرآن لهم ودفاعه عنهم لوصل تاريخهم إلى البشرية مشوهاً بتأثير تحريف اليهود عليهم، وظلمهم لهم، كما نقلنا عن "توراتهم" في النصوص السابقة .
إن المسلم إزاء كل هذا يحس بمسئوليته الدينية العامة تجاه بيت المقدس، باعتباره مركزاً أساساً لتراث النبوة .
ووفقاً لتعاليم الإسلام فإنه ليس مسلم من لا يحمي تراث الأنبياء، - كل الأنبياء – من التدمير المادي أو التشويه المعنوي، وهو الأمر الذي سعى إليه اليهود في كل تاريخهم على مستوى الفكر حين حرفوا التوراة، وابتدعوا التلمود وملؤها بما لا يرضى الله ولا يقبله دين سماوي، وعلى مستوى التطبيق حين عاثوا في كل بلاد الله الفساد، وحاربوا كل الأنبياء، وأشعلوا الحروب، وجعلوا أنفسهم شعب الله المختار، وبقية الشعوب في منزلة الكلاب والأبقار، ولذا ينبغي على المسلم الصادق جهادهم دفاعاً عن شريعة الله الحقة،واستنقاذاً لتراثهم المعنوي والمادي، بل دفاعاً عن الحضارة الإنسانية كلها .